أيمكن للأتمتة أن تستحوذ على مهن المحاسبة؟

15 مارس 2021 | لوريال آر جيلز

لوريال آر جيلز، مدير أبحاث التكنولوجيا الرقمية والتحول المالي، معهد المحاسبين الإداريين

بتغلغل تقنيات الأتمتة وتعلم الآلة والذكاء الاصطناعي في حياتنا المهنية ومنها مهنة المحاسبة. فقد دخلنا اليوم مرحلة جديدة تتكامل فيها تقنية المعلومات مع العالم الواقعي المعاش وتقود إلى تحويل سلاسل القيمة في قطاع الأعمال، وتغيير أسلوب حياتنا ومزاولتنا للأعمال إلى الأبد. ونظراً لقدرتها على الانتشار سريعاً وعلى نطاق واسع، تأتي تقنيات إنترنت الأشياء والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي لتمهد الطريق أمام توفر الحلول السبّاقة والفرص الاستثنائية التي تدفع عجلة النمو بأسلوب لم نعهده سابقاً. ومع تصاعد وتيرة تبني المؤسسات لمقاربات متقدمة لإدارة أعمالها، ازدادت قدرتها على استغلال إمكانات هذه التقنيات الحديثة. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي مع إمكانات الأتمتة وتعلم الآلة، قادر على إلغاء العمليات الروتينية والمحددة مسبقاً بأسلوب يدوي، تبقى القدرات التحليلية والعمليات الأخرى ذات الصلة حاضرة بقوة في المهارات البشرية. ولذلك، لن تستبدل تقنيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة الكوادر البشرية العاملة في مهن التمويل والمحاسبة خلال المستقبل المنظور. وعلى العكس من ذلك، وبما أن الذكاء الاصطناعي يعمل على أتمتة العديد من جوانب الأعمال، ثمة فرصة كبيرة للمتخصصين في المحاسبة والتمويل لصقل مهاراتهم لمواكبة متطلبات الحياة المهنية في القرن الحادي والعشرين.

 

لنكن واقعيين هنا … لقد دفعت التقنيات المتطورة مجتمع الأعمال العالمي إلى إدراك الحقيقة وهي أن العمليات المحاسبية التقليدية اليدوية أصبحت بعيدة عن أسس الاستدامة. وبصرف النظر عن انخفاض كفاءة العمليات اليدوية، هنالك قضية التكلفة التي يجب أخذها بعين الاعتبار. وتتفاوت تكلفة عمليات التمويل المحاسبة بشكل كبير بين القطاعات وحسب حجم الشركة، حيث غالباً ما ترى الشركات الأكبر حجماً فوائد كبيرة في الاقتصادات التي تقدم خدمات مشتركة وواسعة النطاق. ويسلط مقال في مجلة التمويل الاستراتيجي (Strategic Finance)الضوء على هذه القضية عبر تناول دراسة حالة في شركة “كوكا كولا”.

 

منذ سنوات قليلة مضت، بدأت شركة “كوكا كولا” مراجعة ميزانيتها العمومية آنذاك عبر عملية مطابقة شاملة لنحو 50 ألف حساب موازنة عامة. وقادت الأنظمة العديدة والعمليات اليدوية حينها إلى نشوء تحديات خطيرة، تمثلت في قضاء 800 موظف لنحو 14 ألف ساعة شهرياً لعمليات التسوية فقط. ومن خلال الانتقال نحو أتمتة العمليات، تمكنت الشركة من منح مهام جديدة لـ40% من الموظفين الذين كانوا مشاركين في عمليات التسوية اليدوية والروتينية. وتمكن هذا الفريق حينها من التركيز على نشاطات أخرى مثل المقاييس، وإعداد التقارير، وضوابط تقنية المعلومات، وتغيير أطر الحوكمة. ومنذ هذا التحول في عام 2015، حققت الشركة ملايين الدولارات بفضل مستويات الكفاءة التي تم تعزيزها واستثمارها في العمليات المحاسبية.

 

ومع سعي المزيد من الشركات إلى تطوير عمليات التمويل والمحاسبة لديها، بات تطبيق درجة ما من الأتمتة يعتبر خطوة منطقية لزيادة كفاءة عملها وأتمتة العمليات التي تستنزف وقتها. 

 

ووجد استطلاع أجرته شركة ديلويت مؤخراً أنه من بين 400 مشارك، أفاد 72% بأن المدراء التنفيذيين يدعمون أتمتة العمليات الروبوتية و53% بمتلكون بالفعل مبادرات جارية لهذا الغرض. وستواصل هذه المعدلات ارتفاعها مع تغير طبيعة التركيبة السكانية للكوادر البشرية العاملة.

 

وأدركت دول الشرق الأوسط أهمية مثل هذه التقنيات وشهدت نمواً هائلاً في الطلب عليها. وهنالك العديد من المبادرات في المنطقة التي تروج لإدخال هذه التقنيات، بما في ذلك استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي، التي تهدف إلى جعل دولة الإمارات الأولى في إدخال استثمارات الذكاء الاصطناعي ضمن مختلف القطاعات. وفي المملكة العربية السعودية، منحت رؤية السعودية 2030 الأولوية للاستثمار في الروبوتات والذكاء الاصطناعي وجعلتها ركيزة رئيسية لاستراتيجية التنمية الاقتصادية في المملكة.

 

ومن بين القضايا الأخرى الواجب أخذها بعين الاعتبار هي موضوع المواهب، حيث يشكل الشباب من جيل الألفية الآن نحو ثلث الكوادر البشرية العاملة في مهن المحاسبة. إلا أنه وفقاً لـ74% من المدراء الماليين الذين شاركوا في استطلاع إرنست ويونغ “الدور المتغير للمدراء الماليين”، تواجه الشركات المالية أزمة في المواهب. وحتى مع العدد المشجع من الشباب العاملين في قطاع التمويل والمحاسبة اليوم، أفاد 25% منهم فقط بأنهم سيبقون في هذه المهن وفقاً لاستطلاع “سوق العمل العالمي” الذي أجرته شركة “سي أي بي” التابعة لجارتنر. وأقر هذا الاستطلاع بأنه “في كل حالة … رحب الناس … بالتكنولوجيا نظراً لأنهم كرهوا المهام التي تؤديها الآلات اليوم، حيث خففت عنهم ضغوط العمل المتزايدة”. وتعكس هذه الآراء مستقبل مهن المحاسبة والتمويل، فالمهام الروتينية المتكررة لم تعد تستحق وقت فريق العمل وتحتاج جهداً ووقتاً أكثر من اللازم.

 

إن التركيز المتصاعد والاعتماد المتنامي على التقنيات الحديثة يقدم فرصة لممتهني المحاسبة والتمويل، الذين اعتادوا على اتقان استخلاص البيانات من مجموعة متنوعة من أنظمة المعلومات، ومعالجة تلك البيانات، والحصول على رؤى منها،  للبناء على هذه الكفاءة الأساسية والتوجه نحو التعاون ضمن أطر تجارية مثمرة مع الآخرين في مؤسساتهم. ومع ذلك، يجب القول أنه من أجل استغلال هذه الفرصة، سيحتاجون إلى تطوير مهارات جديدة.

 

يتعين على المحاسبين الراغبين بضمان جدواهم المهنية والنجاح في عملهم على المدى الطويل، تطوير كفاءاتهم الفنية في مجالات مثل تحليل البيانات وعلوم البيانات وذكاء الأعمال وأنظمة المعلومات، واكتساب الخبرات في المزيد من المهارات التقليدية (التي تتسم بارتفاع الطلب عليها) على غرار التخطيط المالي، ودعم اتخاذ القرارات، والضوابط الداخلية، وإدارة المخاطر. وهنالك العديد من المهارات الفنية التي لا تغطيها دورات المحاسبة الجامعية، إلا أنه يمكن اكتسابها عبر برامج مثل شهادة المحاسب الاداري  المعتمد (CMA)، والشهادات الجديدة وبرامج الاعتماد المحاسبي الفني، والدورات المقدمة عبر معهد المحاسبين الإداريين (IMA) والموجهة لتأهيل المحاسبين وممتهني الخدمات المالية للالتحاق بالشركات في المستقبل. وفي المحصلة، نجد أن الأتمتة تستبدل بعض جوانب الأعمال المحاسبية التقليدية أو حتى تلغيها، لكن هذه العملية تمثل ميزة كبيرة وتمهد الطريق نحو تأكيد الدور الأساسي الذي تلعبه المهنة في نمو الأعمال واستدامتها. فالسؤال هو، هل ممتهني المحاسبة مستعدين للقيام بما هو ضروري لصقل  مهاراتهم واكتساب مهارات جديدة تلائم وصف مهامهم الوظيفية الجديد؟